2 ـــــ من إكوزيم القرطاجية إلى إكوزيوم الرومانية
واجه القرطاجيون في مشروعهم التوسّعي في غرب المتوسّط عقبة كأداء تمثَّلت في قوة روما الصاعدة، فدخلوا معها في سلسلة حروب دامية سُمِّيت بالحروب البونيقية بدأت عام 264 قبل الميلاد، وامتدت لأزيد من قرن من الزمان وكان ميدانها غرب المتوسّط وشمال أفريقيا.
نهاية هذه الحروب كانت مفصلاً هاماً في تاريخ المنطقة والعالم القديم. إذ لم تكن سنة 146م قبل الميلاد سنة انتهاء ما عُرف بالحروب البونيقية فحسب، بل عام سقوط قرطاجة وتدميرها على يد القائد الروماني سكيبيو، حيث بدأ فعلياً التـأريخ لتحوُّل القوة الرومانية البرية الصاعدة تدريجاً، بعد أن خلت لها الساحة، إلى إحدى أعظم إمبراطوريات العالم.
مع تدمير قرطاجة شهد التاريخ اندثار واحدة من أكبر الحضارات التي عرفها العالم القديم تجاوزت الحدود والثقافات، وقدَّمت للبشرية زيادة على "ثورة الأبجدية" كمّاً هائلاً من الإنجازات ليس أقلّها أن مدناً عديدة آهلةً وعامرة على امتداد ضفتيّ المتوسّط، تدين بالفضل للفينيقيين لوضع لبناتها الأولى.
من آثار هذا التدمير أيضاً محت روما تراث البونيقيين الثقافي والديني، وأضحت هذه الحضارة العظيمة لا تُعرَّف إلاَّ بدلالة التاريخ الروماني. يكفي أن نعرف أن تسمية الفينيقيين أو البونيقيين نفسها، لم يطلقوها هم على أنفسهم في التاريخ، وإنما يكمن الفرق الوحيد بين الكلمتين الدَّالَّتين على شعب واحد، في اللغتين الإغريقية واللاتينية حيث يُحيل المعنى إلى اللون الأرجواني الذي برعوا في استخراجه من الأصداف البحرية لصبغ منسوجاتهم به.
لم تكن الهيمنة الرومانية على شمال أفريقيا ووراثة الإمبراطورية القرطاجية سريعة ومباشرة، بل مرّتَ بمراحل تدريجية اقتضاها السياق التاريخي الذي عرفته المنطقة خلال تلك الفترة. فالقرطاجيون لم يسيطروا فعلياً إلا على مواقع محدّدة في السواحل الأفريقية التي أسَّسوا فيها محطات ومستوطنات تجارية، ولم يتوغَّلوا في المناطق الداخلية الجبلية أو السهلية تاركين سكانها يتمتَّعون باستقلال نسبي مع تبعية للمركز في قرطاجة. كان التبادل التجاري والثقافي بين القرطاجيين والنوميديين (الذين سيُطلق عليهم لاحقاً البربر) في أَوْجِه، حيث انتشرت معه الثقافة القرطاجية إلى حد الاندماج الثقافي التام في المدن القرطاجية التي كانت إكوزيم من ضمنها. فقد كانت البونيقية هي اللغة المكتوبة المتداولة بين النخب في التجارة والإدارة والحياة اليومية.
في هذا السياق شكَّلت قبائل المنطقة، ثلاث ممالك؛ موريطانيا إلى الغرب من وادي ملوية في الحدود الشمالية للمملكة المغربية الحالية تقريباً، ومملكة مسيسيليا أو نوميديا الغربية التي امتدت غرباً من وادي ملوية في شرق المغرب حالياً إلى الشرق الجزائري الحالي وتقع ضمنها مدينة إكوزيم الفينيقية، ثم مملكة ماسيليا أو نوميديا الشرقية التي ضمَّت شرق الجزائر الحالية.
كانت قرطاجة تعتمد في تكوين جيوشها على المرتزقة الذين تجلبهم من شعوب ومناطق عديدة، لكن دور النوميديين وخصوصاً الفرسان منهم كان كبيراً، وقد ذاع صيتهم من خلال دورهم الحاسم في انتصارات قرطاجة ضد روما حيث أضحت فرقة الخيَّالة النوميدية الفعَّالة من أهم أعمدة الجيش القرطاجي مثلما ينقل لنا المؤرّخان اليونانيان بوليبيوسPolybe وسترابو Strabon والمؤرّخ الروماني تيتوس ليفيوس Tite-Live .
لكن الحروب البونيقية شهدت انقلاباً فعلياً في موازين القوى عند خروج الماسيل (في نوميديا الشرقية) من الحلف القرطاجي والتحقوا بجيش روما، بقيادة القائد النوميدي الطموح ماسينيسا، الذي كان يقود الفرسان النوميديين لحساب قرطاجة في شبه الجزيرة الإيبيرية، فيما قاتل غريمه صيفاقس ملك ماسيسليا (نوميديا الغربية) مع القرطاجيين. شكَّل انقلاب الخيَّالة النوميديين على قرطاجة وقائدها هنيبعل ضربة قاصمة عجَّلت بسقوط قرطاجة لاحقاً وتدميرها إلى الأبد.
وقد تمكّن ماسينيسا من توحيد النوميديتين الشرقية والغربية في مملكة واحدة عاصمتها سيرتا (قسنطينة في شرق الجزائر الحالية) قضمت المستوطنات القرطاجية الساحلية وضمَّت الجزائر وأجزاء من تونس وليبيا الحالية، حافظت نوميديا المُوحَّدة، إلى وفاة مؤسّسها على استقلال نسبي مع علاقات قوية ووثيقة مع روما.
لكن بعد سلسلة من الأحداث والحروب الأهلية بين أبنائه وأحفاده وسط تدخلات مباشرة وغير مباشرة من الرومان، فقدت نوميديا وحدتها وتقلَّصت حدودها إلى ضواحي سيرتا، إلى غاية سنة 25 قبل الميلاد حيث بدأت بوادر النفوذ الروماني بتنصيب الإمبراطور الأول أغسطس للقائد النوميدي يوبا الثاني على عرش مملكة موريطانيا التابعة، التي امتدت حدودها من شرق الجزائر الحالية إلى المحيط الأطلسي. كانت إكوزيوم واحدة من مدن هذه المملكة التي اتخذت من مدينة قرطاجية ساحلية أخرى غير بعيدة عن إكوزيم عاصمة لها، هي قيصرية موريطانيا أو شرشال في وسط الجزائر الحالية، وصولاً إلى سنة 40 قبل الميلاد تاريخ الإلحاق الرسمي والمباشر لشمال أفريقيا بالإمبراطورية الرومانية، حيث أصبحت إكوزيوم مدينة رومانية.
لم يكن بإمكان الرومان استيطان المنطقة لأسباب ديمغرافية وغيرها، لذا لجأوا إلى إدماج سكان المنطقة ذات الثقافة الثنائية البونيقية - البربرية في إمبراطوريتهم من خلال مسار طويل من الرَوْمَنَة الثقافية واللغوية. لكن ذلك لم يمنع قيام مستوطنات رومانية على الساحل، وانتقال مستوطنين رومان للإقامة في بعض المدن مع ارتباطهم مع مدن أوروبية كما هي الحال مع مستوطني إكوزيوم مع مدينة إلتشي في جنوب إسبانيا. هذا الارتباط يشهد، كما يقول دو ڨلاي، على العلاقات الوثيقة بين شمال أفريقيا في ظل مملكة موريطانيا، وشبه الجزيرة الإيبيرية منذ العهد البونيقي، بحيث صار بالإمكان الحديث عن "الحضارة البونيقية - الإيبيرية" في غرب المتوسّط مقابل "حضارة بونيقية - إغريقية" في شرقه.
شكَّل المستوطنون الرومان الذين لم يكونوا بأعداد كبيرة هيئة لإدارة المدينة ارتبطت بعلاقات قوية مع موريطانيا (وعاصمتها شرشال الحالية في وسط الجزائر) تحت سلطة الملك بطليموس الموريطاني، وذلك قبل الوجود الروماني المباشر في سنة 40 قبل الميلاد عندما أضحت إكوزيوم مدينة رومانية.
لم تُذكر إكوزيوم الرومانية بأحداث مُمَيَّزة سوى عام 371م خلال الثورة التي قادها القائد البربري الطموح فيرموس ضد الوجود الروماني بعد أن جمع حوله الغاضبين من السياسة الجبائية والمضطهدين من أتباع المذهب المسيحي "الهرطقي" الدوناتي، حيث نهب وحرق مدناً رومانية، منها إكوزيم، واستمرت إلى حين هزيمته عام 375م على يد القائد الروماني ثيودوسيوس الأكبر.
وقد تلاشى دورها فعلياً بعد هذه الفترة بستة قرون، أي إلى حين انبعاثها من جديد على يد الفاطميين في القرن العاشر ميلادي، رغم مرور المنطقة ككل بفترات الوجود الوندالي لمدة قرن تقريباً بين 429م و533م، ثم بعدها البيزنطي والإسلامي، وهو التلاشي الذي يجعل الباحث يتساءل عن الأسباب الكامنة وراء ضعف دور المدن الساحلية كلها في هذه الفترة الطويلة وليس إكوزيوم وحدها.
عبد الله بن عمارة ــ بتصرف ــ