3 ــ من جزائر بني مزغنة إلى الجزائر الفاطمية
لمدة قرن يفصل ما بين حملات العرب المسلمين على المغرب والأندلس وظهور أولى الدول الإسلامية؛ الرستمية الإباضية والإدريسية الشيعية والأغلبية ذات الولاء العباسي، حدثت أَسْلَمَة واسعة للمنطقة بما يعني اندماجها في التاريخ الإسلامي.
في فترة الفتوحات غطَّى حضور القيروان كمركز للوجود العربي وعاصمة للمغرب على الحواضر المنتشرة على طول الساحل الجزائري الحالي، ومنها إكوزيوم التي تراجع دورها. لا نجد في تاريخ الحملات العسكرية الإسلامية المتتالية والمعارك المفصلية في تاريخ المغرب سوى المناطق الداخلية في جبال الأوراس وإقليم الزَّاب وغيرها، وهي التي ستُعرف لاحقاً بالمغرب الأوسط (الجزائر الحالية) حيث لعبت قبائله بعد استكمال مسار الأسْلَمَة دوراً حاسماً في التوسّع الإمبراطوري الإسلامي نحو أقصى غرب المغرب وشبه الجزيرة الإيبيرية، إلى أن تأسَّست حواضر مغربية داخلية في تيهرت وفاس اتُخِذت عواصم لكيانات مستقلة عن مركز الإمبراطورية الإسلامية في المشرق، واستفادت من طرق التجارة الصحراوية القائمة أساساً على الذهب والرّق.
جاء أول ظهور للإسم العربي لــ "إكوزيم"، الذي حافظ على المعنى المرتبط بالجزائر الأربع قبالتها، مرتبطاً بقبيلة بربرية هي بني مزغنَّة (أو مزغنَّاي) استقرَّت في المدينة الرومانية، يبدو أنها صنهاجية بحكم أن المدينة تقع في مجالات هذه القبيلة الكبيرة التي تجاورها شرقاً مجالات قبيلة كتامة في المغرب الأوسط.
كان هذا الظهور في كتاب "صورة الأرض" للجغرافي العربي أبي القاسم بن حوقل النصيبي: "وجزائر بني مزغنَّاي مدينة عليها سور على سيف البحر أيضاً، وفيها أسواق كثيرة،..... ولها بادية كبيرة وجبال فيها من البربر كثرة.... ولها جزيرة في البحر على رمية سهم منها تحاذيها فإذا نزل بهم عدو لجأوا إليها فكانوا في منعة وأمن ممن يحذرونه ويخافونه".
ويرى الأكاديمي الجزائري عمارة علاَّوة في هذا الصدد، أن انبعاث المدينة من جديد جاء في سياق فترة تاريخية نجح فيها الأمويون في قرطبة بدءاً من القرن 8م، في تنمية التجارة البحرية في الحوض الغربي من المتوسّط، وتشجيع التبادلات التجارية بين موانئ الأندلس والمغرب، وقد عمد البحّارة الأندلسيون إلى تأسيس مرافئ في المغرب تحوَّلت إلى مدن مغربية عامرة على غرار تنس ووهران .
في بداية القرن العاشر ميلادي نجحت الثورة الفاطمية ذات الإيديولوجية المهدوية، بقيادة قبيلة كتامة في إسقاط الحكم الأغلبي الموالي للعباسيين، وكانت هذه القبيلة حليفة لصنهاجة، تحاذيها في مجالاتها في المغرب الأوسط وتقاسمها المشتركات الثقافية واللغوية والمعاشية. لذا كان من الطبيعي أن تعتنق صنهاجة أيضاً الدعوة الفاطمية، وإن لم يكن بنفس درجة الحدّة العقائدية لكتامة، فلعبت القبيلة أدواراً عسكريةً حاسمةً في تاريخ الإمبراطورية الفاطمية في مرحلتها المغربية، إلى جانب الكتاميين في الكثير من المعارك كان أخطرها القضاء على أعنف ثورة خارجية انطلقت من جبال الأوراس في شرق الجزائر الحالية بقيادة مُخلَّد بن كداد اليفرني المعروف بــ "صاحب الحمار". ثورة كادت أن تنهي الحُلم الإمبراطوري الفاطمي في مهده، لكن صنهاجة استفردت بالدور الأساس في خدمة المشروع الفاطمي في المغرب، بينما حملت حليفتها كتامة أعباء المشروع في المشرق بعد القرار التاريخي الذي اتخذه الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله بالانتقال إلى مصر.
عيَّن الخليفة الفاطمي المنصور القائد الصنهاجي زيري بن منَّاد والياً على أفريقيا والمغرب الأوسط وهي ما يقابل حالياً تونس والجزائر، وقد شيَّد مدناً عديدة على مجالات قبيلته في وسط المغرب الأوسط في الجزائر الحالية. ازدهرت هذه المدن على خطوط التجارة بين تونس في شرق المغرب والمغرب الأقصى كأشير التي اتخذها عاصمة له. وأمر إبنه بُلكين (تُنطق بولوغين أو بُلڨين) ببناء مدن مليانة والمدية وإعادة بناء مدينة الجزائر لتتحوَّل إلى مرفأ بحري للعاصمة الداخلية أشير، التي أصبحت بعد وفاة زيري بن مناد وتولِّي إبنه بُلكين الحكم عاصمة لكيان مُوحَّد وقوي تمكَّن في فترة من الفترات من توحيد أجزاء واسعة من بلاد المغرب تحت سلطته في ظل الراية الفاطمية. ابتداءً من هذه الفترة أضحت المدينة تُسمَّى الجزائر من غير إشارة إلى قبيلة بني مزغنَّة.
لكن انقساماً دموياً حصل في القرن 11م بين فرعين من العائلة الزيرية نتج منه ظهور كيانين. كانت مدينة الجزائر من نصيب الحمَّاديين الذين اتخذوا من بجاية الساحلية عاصمة لهم وقد أُقيمت في مجالات قبيلة كتامة، وقد عرفت الجزائر في هذه الفترة، مقارنةً بباقي المدن المغربية، ازدهاراً اقتصادياً واستقراراً سياسياً، بسبب موقعها على الطريق التجاري البحري بين موانئ الأندلس خصوصاً ألمرية، ثم مدينة الإسكندية في مصر، والبري بين المغرب والمشرق.
رافق هذا الانقسام انقلاب تدريجي في الولاء السياسي كما العقائدي على الإمبراطورية الفاطمية كان تجسيده هو الارتباط الرمزي من جديد بالإمبراطورية العباسية في بغداد، في هذا القرن أيضاً تدفَّقت إلى المنطقة قبائل عربية بدوية هلالية وسُلَيْمِية ومَعْقَلِية كان لها دور بارز في التحولات الديموغرافية والثقافية في البلاد.
عبد الله بن عمارة ــ بتصرف ــ